خطوة أولى وفرصة أخيرة
حمدي
قنديل
لا فائدة الآن من اجترار تفاصيل ما حدث خلال
الأيام القليلة الماضية، لا فائدة.. تعرفون أن كلاً منا سيحكم على الوقائع وعلى الآراء
وفقا لانتمائه السياسى أولا وربما أخيرا.. الحكم فى مذبحة بورسعيد آخر مثال.. المعارضون
يعتبرونه مخدراً مؤقتاً، حكماً مسيساً صادراً عن قضاء خاضع للضغوط، والإخوان يعتبرونه
حكما عادلا، ويشيدون بالقضاء الذى داسوه من قبل بالنعال.. استقلال القضاء فى قاموس
الجانبين يحتاج إلى قاموس، وكذلك الحال بالنسبة لتطهير الشرطة، وبالنسبة لموضوعية الإعلام،
وبالنسبة لكل أهداف الثورة بلا استثناء.. لا فائدة إذن من اجترار تفاصيل ما حدث، حتى
لو أردنا استخلاص العبر.. الحق أنه لا وقت لاجترار تفاصيل ما حدث.. المصائب تداهم الوطن،
والزمام على وشك أن يفلت إن لم يكن قد أفلت فعلا والكل لاهون.
غضب بعضنا أو طرب، المسؤولية الأولى فى عنق الرئيس
حتى لو كانت المؤشرات لما نحن فيه اليوم قد لاحت منذ اللحظة الأولى بعد رحيل مبارك،
عندما انفرط عقد القيادات الشابة للثورة وحكم البلد ثلة من العسكر تخبطوا فى إدارتها
مع حكومات مرتعشة الأيدى مفتقدة الرؤية، وتفرغت قوى الإسلام السياسى للقفز على السلطة،
وتنازعت القوى المدنية فلم تعد قادرة على تقديم البديل..
توهم البعض أن الفترة الانتقالية يمكن أن تنتهى
بالانتخابات الرئاسية حتى لو كانت قد حسمت بالكاد لرئيس قادم من المجهول ينتمى إلى
جماعة غامضة بالنسبة لكثير من المصريين.. وظن فريق منا، وكنت واحدا من هؤلاء، أن هذا
الرجل الذى جاء إلى كرسى الحكم بالصدفة قد يتدثر بغطاء القوى الوطنية جمعاء ليتمكن
من الإمساك بالزمام ويقود البلد لتحقيق أهداف ثورة ظل يتشدق بشعاراتها طوال حملته الانتخابية.
الكرسى كان أكبر كثيرا من الرئيس، وإرث الماضى
كان أعتى، وآفاق المستقبل كلها تنذر بعواصف لا تبقى ولا تذر.. احتمى الرئيس من هذا
كله بعشيرته التى انزاحت أستارها فإذا بها لا تمتلك خبرة ولا مشروعا لمصر.. وانكشف
هو الآخر.. رجل متواضع الإمكانات، محدود الحلم، يمتلك نصف موهبة فى الخطابة تليق بإمام
مسجد، أقصى ما كان يمكن أن يصل إليه بالأقدمية وحدها هو كرسى عمادة كلية العلوم فى
إحدى جامعات الأقاليم.
يعلم الله أنى لا أقصد الإساءة، بل أستطيع أن
أقول إنه رجل طيب بسيط يمكن أن تكون لديه نية مخلصة.. لكن، ما باليد حيلة.. وسط أبهة
السلطة المفاجئة ومشكلات الحكم المتلاطمة من كل جانب، هُيئ له أن الملاذ هو حضن الجماعة،
فما كان منها إلاّ أن أغرقته بمستشارين قرويين ربما يصلحون لقيادة مجالس بلدية لكنهم
لا يعرفون الكثير عن حكم بلد عريق كبير، دعك من أن همهم الأول كان الاستيلاء على مفاصل
الدولة وأنهم لا يكادون يعرفون شيئا عن العالم وما يجتاحه من تيارات أو يواجهه من تعقيدات..
الحاصل أننا أصبحنا فيما نحن فيه اليوم.. عمت
الفوضى، وسقط من قتلى الإهمال والتخبط والجبروت فى ستة أشهر ما يزيد على من سقطوا خلال
سنوات من حكم مبارك، وساد الإحباط، وكادت الثورة تضيع.. وبدا لنا جلياً فى الأيام الأخيرة
أن الدولة غائبة سوى من براثن الشرطة الفاجرة، وأن رئيس الحكومة يدير شؤون الرعية باللاسلكى
من دافوس.. أما رئيس الجمهورية ذاته فهو يحتمى بالأسوار والحرس، وعندما يطل علينا فهو
يطل برسالة بائسة على «تويتر» أو بصورة باردة صامتة وهو يترأس أول اجتماع لما يسمى
«مجلس الدفاع الوطنى»، يصدر بيانا مضللا قاصرا، أدنى من الطموحات، لا يؤذن سوى باستمرار
الصدام.
المعارضة ليست فى حال أفضل كثيرا.. ربما يهيأ
لها أن الجماهير الغاضبة التى انتفضت بالملايين فى الميادين قد تحركت بهذا الزخم لتلبية
ندائها، لكن هذه الجماهير خرجت فى واقع الأمر، ليس فقط احتجاجا على ما وصل إليه حالها
من بلاء فى ظل حكم الإخوان، ولكن أيضا لأنها تفتقد بديلا يحقق طموحات ضاعت وأملا فقد
لتحقيق ما نادت به فى 25 يناير.
المعارضة مترددة بين أن تضم إلى صفوفها كل الغاضبين
على الحكم أو أن تنقى صفوفها ممن يشتبه فى ولائهم لعهد الاستبداد والفساد، ومترددة
بين دخول الانتخابات أو مقاطعتها، ومترددة بين اللجوء إلى الشارع أو اللجوء للصناديق..
وحتى عندما حسمت أمرها أمس الأول ونادت بحكومة إنقاذ وطنى لم تكن صارمة فى إنذارها
ولكنها أرخت الحبل للحكام أسبوعا حتى تحشد لهم مظاهرة احتجاج أخرى يوم الجمعة المقبل.
سواء كنا نقف على هذا الجانب أو ذاك من الطيف
السياسى، ربما علينا جميعا أن نعترف أولا بأننا لا نزال فى مرحلة أخرى من الفترة الانتقالية،
وأن الطريق الوحيد إلى الاستقرار يبدأ بالكلمة التى مللنا من مضغها فى كل الأفواه:
التوافق.. قد لا يعنى التوافق لكثيرين المعنى نفسه، ولكن مهما كانت ترجمتنا له فهو
فى النهاية المشاركة فى الحكم.. ليس بالضرورة المشاركة فى الحكومة ولكنه بالقـطع مشـاركة
بالمشورة ومشاركة بصيغة ما فى القرار، مهما كانت هذه الصيغة.
اقتراحى أن يمد الرئيس يده من وراء حظيرة الجماعة
إلى كل القوى على الساحة، وأن ينتدب ممثلا مستقلا له مكانته للتفاهم مع المعارضين على
قيام حوار.. أعرف أننا سئمنا من أى «حوار» بعد أن انتهك الحكم كل حوار سبق أن أفقده
معناه.. لكن لا بديل.. نحن نحتاج بالفعل إلى حوار حقيقى ملزم – أكرر: ملزم - يهدف إلى
قيام لجان عمل تهدف إلى (1) تعديل الدستور. (2) إقرار برنامج اقتصادى يحقق أهداف الثورة
للعدالة الاجتماعية. (3) خطة نهائية للقصاص للشهداء. (4) برنامج لتطهير الداخلية.
(5) مشروع قانون لاستقلال القضاء. (6) قيام المجلس الوطنى للإعلام.. على أن يصدر الرئيس
على الفور قرارين، أحدهما بحل مجلس الشورى، والآخر بتعيين نائب عام يرشحه المجلس الأعلى
للقضاء.
أنا لا أميل كثيرا إلى ما يسمى «حكومة الإنقاذ
الوطنى» التى دعا إليها كثيرون، والتى يمكن أن تكون ساحة لصراع آخر لا محالة.. الأهم
أن نتفق جميعا على برنامج عمل، وندع الرئيس يتحمل مسؤوليته التنفيذية لتحقيقه.
نعم، هذا الاقتراح ليس بجديد.. كثيرون آخرون
ربما يكونون قد اقترحوا مثله أو بعضاً منه أو يزيد، وكثيرون لن يرضوا عنه خاصة بين
الشباب النقى الغاضب.. لكننى أزعم أنه المخرج الوحيد.. وليس لدىَّ من شك أن تنفيذه
يتوقف على مدى صدق نوايا الرئيس.. الخطوة الأولى اليوم ننتظرها منه.. ننتظرها خلال
ساعات لا أيام يحترق فيها البلد.. وهى ليست خطوة أولى فقط، وإنما أيضا فرصة أخيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق