24‏/12‏/2012

فليتسابق المتملقون



فليتسابق المتملقون
ظاهرة قديمه كانت تمارس على استحياء . ولكنها اليوم أصبحت واضحة وضوح الشمس من اجل الدخول فى تجمعات او تكتلات او الحصول على مناصب في هذه الجماعات والتجمعات .
محمود هيبه  في  08/07/2010
في النفاق.. فليتسابق المتملقون
يا فندم! تؤمرني سعادتك. يا مولانا إنت تفصل وإحنا نلبس. هو في بعد قولك قول ياشيخنا ! طال عمرك، تكرم يا سيدنا. يا طويل العمر.  انت رئيسنا واحنا اخترناك ..الخ من جمل الاستحسان المراد بها التملق.
كل هذه كلمات توحي لقارئها  بالتماحيك أو كما يطلق عليها بالعربية الفصحى التملق والوصولية . وأيا كانت اللهجات ومهما تعددت الأغراض فإن سماعها يشعر الهدف بالاعتزاز والزهو فيبدأ باعتدال فى جلسته ونفخ صدره والابتسامة بهدوء ثم أخيرا يصدر أوامره أو تعليماته.
ولا عيب في أن يشعر الرئيس أو الهدف بالزهو والفخر. ولكن العيب كل العيب في تملقه ونفاقه بتلك الطرق الرخيصة .
وإذا دققنا النظر في تلك الإطراءات المبالغ فيها.نجد أنها كلمات إطرائيه لا تحسب على الاسلام واللباقة أو حتى دماثة الخلق بل تميل كلها إلى الاستجداء والاستعطاف وتكسي قائلها كسوة كريهة من الانكسار والضعف والتعية المقيته. ولا نعلم حقيقة دوافع المتملق لكننا نخمن إنه ربما كان قائلها مريضا فهو يشعر نفسيا بالضعف أو الاستكانة. وربما لا يستطيع فعلا التواصل مع زملائه إلا بهذه الطريقة فبها يشعر بوجوده وكيانه. وربما كان هدفه التملق فعلا خاصة أن نتائجها مجدية في أغلب الأحيان.
وكما تتعدد صيغ التملق تتعدد أشكاله فمن الممكن أن يقوم الموظف بدور الخادم كأن يحمل حقيبة الهدف أو يطلب له القهوة فور دخوله مكتبه. وربما قام بدور  العصفورة وهي صفة تطلق على  كل من ينقل الأخبار للرئيس. وربما كان المؤيد فكل ما يقوله الرئيس ضرب من ضروب الحكمة وبالطبع لا يقف دوره عند التأييد فقط بل يتبعها بكلمات توثق تأييده مثل كلامك كله حكم يا سيادة الرئيس. إحنا بنتعلم من سعادتك يا سيادة الرئيس .
التملق
والتملق هو المديح الزائف المبالغ فيه. الذي يهدف لأن يحقق لمن يقوله مكاسب أو مصالح. أو المحافظة على مكانته أو التقدم في عمله. وقد ظهر  المتملقون في جميع الحضارات على مر العصور. ومازالوا موجودين إلى يومنا هذا ، خاصة في حاشيات الشخصيات ذات النفوذ او اصحاب الجاه  فى اى مجال.
ويحكي لنا التاريخ كثيرا من الطرائف عن مداهنة وتزلف المتملقين لذوي السلطة، لاشك أنكم تعرفون العديد منها من دراستكم للتاريخ العربي. وفيما يلي طرائف أخرى من التملق في بعض العصور والمناطق المختلفة.
انتقد الناس  الفيلسوف الاغريقي ( أريستيبو ) لأنه ركع على الأرض عند قدمي الطاغية (ديونوزيو) وتملقه ليطلب منه شيئا فقال: وماذنبي إذا كان ديونوزيو لا يسمع إلا بقدميه!!
وقال فيلسوف آخر اسمه (سينوقراط) لأحد تابعيه : خالفني مرة في الرأي لأعرف أننا لسنا شخصا واحدا. وعندما عاد أول الأباطرة الرومان إلى روما من مصر بعد أن هزم مارك أنطونيو. أسرع أحد كبار رجال حاشيته بإهدائه ببغاءا. كان قد علمه أن يصيح من وقت لآخر(يحيا أغسطس) ثم علم الامبراطور أن الرجل كان قد درب ببغاء آخر ليضمن أن بامكانه أن يتملق الذي يحكم في حالة انتصار أي من المتقاتلين على المنصب، فأرسل من أحضر الببغاء الآخر من منزله. وسخر من الرجل وحط من قدره.
ووصف السياسي الفرنسي كليمونصو أحد المتملقين قائلا: كل عبارة يقولها تتكون من اسم وفعل ومديح كاذب..
و ننوه هنا بحقيقتين  أن العظماء الحقيقيون يمجون عادة التملق ويحتقرون المتملقين. وأن تملقك لمن تحبهم مشروع. كأن تقول لوالدتك : أنت أبرع طباخة في الدنيا مثلا.
وبما أن التملق مرض اجتماعي خطير فإن القرآن الكريم لم يهون من خطر المتملقين . أو يلين لهم الجانب فقد خصص لهم سورة كاملة وهي سورة ( المنافقون) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أضراره الوخيمة والتي تبدأ بإصابة الهدف بالغرور والتكبر وربما ساعدت من لديه استعداد لممارسة الغرور والسلطة ليلقي بالأوامر والنواهي التى تمزق شعبه ووطنه . وتنتهي عواقبه بتحول المجتمع الى غابة يتفوق فيها من يستطيع أن يلون الكلام ويلوي اللسان. أضف على ذلك أن عبارات المديح قد تفقد مصداقيتها وبالتالي فعاليتها إذا تكررت بشكل مبالغ فيه حتى لو قيلت لشخص تميز في عمله بالفعل وبذلك تختل معايير الإثابة والعقاب بشكل عام.
أما عن دور وسائل الإعلام فقد اظهرت افلام السينما المتملق بملابس قديمه ونظارة مقعرة وشعر منكوش وبالرغم من مظهره هذا إلا أنه تفوق على أقرانه فوصل لمنصبه المستهدف أو حصل على رضا رؤسائه بجدارة وذلك يرسخ بالطبع في عقول المشاهدين تلك الطريقة السهلة الوصول المجدية الآثار. وفي مجال الشعر نجد الشعراء قد سخروا من المتملق فجسده الشاعر أحمد مطر في صورة خروف يوصي ابنه بالتملق فقال:
ولدي إذا ما داس إخوتك الذئابْ
فاهرب بنفسك و انجُ من ظفر وناب
وإذا سمعت الشتم منهم والسباب
فاصبر فإن الصبر أجر و ثواب
إن أنت أتقنت الهروب من النزالْ
تحيا خروفاً سالماً في كل حال
تحيا سليماً من سؤال و اعتقال
من غضبة السلطان من قيل و قال
كن بالحكيم ولا تكن بالأحمقِ
نافق بني مع الورى و تملق
وإذا جُرِّرت إلى احتفال صفق
وإذا رأيت الناس تنهق فانهق
ما العز ما هذا الكلام الأجوفُ
من قال أن الذل أمر مقرف
إن الخروف يعيش لا يتأفف
ما دام يُسقى في الحياة و يُعلف
واخيرا يستوجب هنا ان نفرق بين مديح المجاملة ومديح التملق فالفرق بينهما كبير وشاسع فالأولى لا تضرر لا بقائلها ولا مستمعها ولا حتى المحيطين بهما بل قد يكون لها أثرا إيجابيا في تحفيز  الهدف ودفعه للنجاح والتفوق وبذلك تعتبر قوة داعمة معنوية اما مديح التملق فهي على العكس تماما من ذلك فقد تدفع  الهدف للغرور والمتملق لللاستمرار في نفاقه طالما انه يجني من ورائه المكاسب. والمتملقون  كثيرا ما يتعدون على حقوق الكثيرين ويشحنون نفوسهم بالبغضاء.
هل التملق مرض العرب أم مرض العصر؟
ان ما نلاحظه على العلاقات القائمة في مجتمعنا اليوم هو بروز هذه الظاهرة بل واستشرائها في أغلب العلاقات ما أدى الى اختلال في المعايير التي تحدد جودة هذه العلاقات او رداءتها، ولعل المشكلة التي تظهر في هذا المجال هي قضية الموازنة بين السلوك والعمل المطلوب تحقيقهما، فبعض الافراد يجيد السلوك والقول حد التملق الواضح على حساب الانجاز العملي الملحوظ. وهناك شخص آخر يجيد العمل لكنه قد يفتقر الى القول والسلوك المقبول. وهنا ستختل العلاقات بمختلف انواعها وذلك باختلال معايير التقييم التي يُستنَد إليها. ومع ان كثيرا من الناس يؤكدون على ان العمل هو الذي يتحدث عن نفسه. غير أن طبيعة العصر تحتم علينا كأفراد ضمن منظومة اجتماعية كبيرة التعامل مع الآخرين لا سيما الؤساء وارباب العمل ومسؤولوا الانتاج بإسلوب مقبول ينطوي على درجة عالية من الذوق المتعارف عليه.
غير أن الاشكالية الكبيرة التي انطوت عليها منظومة العلاقات القائمة في مجتمعنا الآن تتمثل بانتشار ظاهرة التملق على المستويين الفردي والجماعي ممثلة بعلاقات الافراد مع بعضهم او علاقات الجماعات كمؤسسات ومنظمات وغيرها مع بعضها. فالموظف العادي على سبيل المثال يتملق رئيسه بطرق شتى كي يسد نقصا واضحا في واجبه الانتاجي مهما كانت طبيعته. والمشكلة الاخرى تتمثل برؤساء العمل الذين يتقبلون هذه الظاهرة بل بعضهم يحث عليها ويشجع على ممارستها وذلك سدّا لنقص أو عجز نفسي تنطوي عليه شخصيته غير المتوازنة. وهذا ما يؤدي بدوره الى دعم هذه الظاهرة والمساعدة على انتشارها مقابل ضعف كبير في الانتاجية الفردية او المؤسساتية.
ولعل التملق لا ينحصر بالقادة السياسين او الرؤساء وما شابه ذلك من وزارت ودوائر حكومية. إذ من المعروف ان هذه الظاهرة تعيش وتتنامى في مثل هذه المؤسسات والدوائر غير ان العنصر الذي سيشكل صمام أمان تجاه العناصر المتملقة هو شخصية المسؤول سواء كان رئيسا أو وزيرا او مديرا عاما او صاحب عمل ومدى اتزانه اذا كان يتمتع بالعدل والمساواة والضمير الحي. حيث يجب أن يتابع هذه الظاهرة وعناصرها ويعمل بقوة على محاربتها ورصد العناصر التي تتعامل وفقا لها.
و من هذه الظاهرة ما يتعلق بتملق ضعاف النفوس للأغنياء. وهم لا يعلمون ان الغنى هو (غنى النفس) وان كرامة الانسان وصيانتها ستقوده الى الثراء الخالد المتمثل برضا الله تعالى والناس معا. لذلك ينبغي أن يعمل الجميع على محاربة هذه الظاهرة لأنها أساس الظلم وأساس الشعور بالغبن وأساس استفحال الاحباط والنكوص وضعف الانتاج من خلال الارباك العلاقاتي الذي تصنعه هذه الظاهرة وقبولها من قبل بعض عناصر المجتمع سواء من المتملقين أو المتملَّق لهم.
ومع رصدنا لشيوع التملق اليوم فى اماكن كثيرة تدخل في زوايا الجتمع كله. إلا اننا ينبغي ان نجتهد ونمارس دورنا الرافض لهذه الظاهرة. ولعل تاريخنا يحفل بالنماذج الانسانية الفريدة التي أظهرت حزما كبيرا في معالجة التملق والقضاء عليه . والتى غالبا ما تكون من الحاشية او البطانة (الخبيثة) البطانة التى تصوغ سياستنا اليوم دون وازع من ضمير ودون خجل . سواء كانوا مستشارين أو قضاة أو مديرين أو قنوات فضائية أو اعلاميين .
وبالقضاء على التملق (وهو امر ربما يكون محالا) لكن بالحد منه وفضح عناصره نكون قد حققنا خطوات هامة نحو بناء مجتمع جديد شبه متوازن  . يقوم على مبدأ المحبة ولجمع الشمل الممزق والتكافؤ والعدل والمساواة . بعيدا عن سبل وطرق التملق الملتوية الرخيصة المبتذله  والتى تحط من قدر صاحبها .
التعليقات
الحقيقة دائما صادمة
التملق اصبح اساس حياة اناس كثيرين لا ابالغ ان قلت لك استاذي الفاضل انه مصدر قوت الكثير في العصر الذي نحيا فيه
لأن الامانات ضاعت لذلك نتوقع الكثير من الآفات استاذي الفاضل
مقالك توضيحي ومفصل باسلوب رائع
مزيدا من التقدم والتألق
تقبل تحياتي
نجلاء نصير - 22/04/2010
رائع يا أستاذ محمود
فقد وضعت اصبعك على جرح هذه الأمة باختيارك لهذا الموضوع وأجدت الوصف والعلاج بارك الله فيك وأتمنى لك مزيداً من التقدم.

ليست هناك تعليقات: