16‏/01‏/2013

قطر و«الجزيرة» والشرق الأوسط الجديد و المستشرق الصهيوني الهَوَى بيرنارد لويس



بقلم / دياسر عبدالله الحربش
قطر كدولة شقيقة على العين والرأس، لكن سياساتها تثير الكثير من الشكوك والتساؤلات، وأستعمل عمداً كلمة سياسات لعدم العثور على خط سياسي واضح المعالم. لا يستطيع المتابع أن يمسك بخيط، ناهيك عن حبل يقوده في اتجاه هدف محدد للسياسات القطرية. هل يمكن التعرف على استراتيجية واضحة للمطبخ السياسي في قطر داخل كل هذه التكتيكات المتضاربة ظاهرياً والمتشابكة في كل شأن وزمان ومكان ؟. هل الهدف الاستراتيجي للسياسات القطرية هو توجه خليجي تعاوني، أم إسلامي إخواني أم سلفي تكفيري، هل هو ليبرالي تحرري أم جهادي فوضوي، هل هو توفيقي لتقريب الفرقاء أم تفريقي لتفكيك الأقرباء، أم أنه ليس ذلك كله وإنما خلط أوراق مخطط ومدروس لخدمة إعادة تشكيل المنطقة العربية بهويات متشاركة مهجنة ؟.
في جلسة نقاش بين أصدقاء حول هذا الموضوع خرجت محبطاً، لأنني كنت أتوقع رؤية أكثر وضوحاً عند تلك المجموعة من المثقفين. لماذا لا يحس العربي أن السياسة القطرية وقناة الجزيرة وقاعدة العديد في محيطهما، أن هذا الثلاثي يشكل جزءاً كبير الأهمية في منظومة متعددة الحلقات، اسمها مشروع الشرق الأوسط الجديد الكبير. لماذا نستمر في خداع النفس والمجاملة والاكتفاء باللجوء إلى طلب ستر الله وحمايته. إن الله تعالى لا يمنح الستر والحماية إلا بعد أن يجند الإنسان كل إمكانياته للبحث عن الستر والحماية. السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ولكن العقل والعضلات تستخرجهما من الأرض.
ما هو مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد؟. أول من تحدث بوضوح في هذا الأمر كان المستشار الأمني القومي زبيجينيو بريجنسكي في حكومة الرئيس كارتر عام 1980م. المنظر الأيديولوجي له هو برنارد لويس، أستاذ الدراسات الشرقية والإسلامية في جامعة برينستون الأمريكية، اليهودي الديانة أمريكي الجنسية.
أعمدة المشروع تقوم على استغلال الاهتراء السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد العربية لإحداث أكبر قدر من الفوضى الدينية والمذهبية والعرقية بهدف تسهيل وشرعنة إعادة تشكيل المنطقة العربية بجغرافيات وهويات جديدة. تستهدف فكرة المشروع ثلاث اهتمامات رئيسة:
الوصول النهائي إلى قبول إسرائيل كمركب عضوي ثقافي واقتصادي وسياسي كامل الحقوق في الجغرافيا والمستقبل العربي.
إضعاف الكيانات العربية الكبيرة نسبياً وتجزئتها بحيث تحتاج كل واحدة منها على حدة إلى الحماية الأمريكية والإسرائيلية.
استغلال الحقائق المروعة في تقارير التنمية العربية عن وضع المرأة وحقوق الأقليات وغياب حريات الرأي والعبادة وضعف مخرجات التنمية لإحداث الفوضى قبل إعادة التركيب.
تشير المقدمة في نص مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد الذي طرحته الولايات المتحدة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثماني عام 2004 م، على أن الشرق الأوسط مقبل على مشاكل اقتصادية وديموجرافية ودينية ومذهبية تهدد الاستقرار المعيشي لأمريكا والغرب وإسرائيل، حيث وجد أن الناتج القومي لكامل الدول العربية بعدد سكانها الضخم أصغر من الناتج القومي لدولة إسبانيا وحدها، وأن المرأة لا تساهم إلا بمقدار ستة في المائة في النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وأن الثروات تتركز في أياد قليلة شرهة ليس في واردها الدخول في مشاريع تنموية وطنية تشاركية حقيقية.
واضح هنا أن روائح الفوضى الخلاقة التي أفصحت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس في حكومة جورج بوش الابن في عدة مناسبات تفوح من طيات هذا المشروع. عندما يكون المنظر الأيديولوجي هو المستشرق الصهيوني الهَوَى بيرنارد لويس، ويكون المنسق السياسي مستشار الأمن القومي الأمريكي فلابد عندئذ من الاستنتاج أن الأهداف الكبرى من المشروع تضع كأولوية قصوى فرض قبول العضو الإسرائيلي في الجسد العربي بعد إضعاف جهاز المناعة في المنطقة العربية إلى الدرجات القصوى.
من المحتم بعد أن يتم هذا القبول أن يصبح من يمتلك أفضل الطاقات الفكرية والعسكرية والاستخباراتية والحظوة الأمريكية والغربية هو المسيطر والموجه الفعلي في المنطقة. هذه المواصفات لا يمتلكها في الشرق الأوسط سوى الكيان الإسرائيلي.
عانت الحكومات الأمريكية والإسرائيلية المتتابعة لأكثر من نصف قرن من الرفض المبدئي لإسرائيل كعضو في الجسد العربي لسببين: الأول هو أن جزءًا من الدول العربية كان يستند في شرعيته إلى الأيديولوجيا القومية العربية. هذا الجزء انتهى أمره الآن وسقط لأن بعضه راهن على الحصان الاشتراكي الخاسر والبعض الآخر انحرف أخلاقياً إلى المتاجرة بالقومية لصالح انتماءاته المذهبية والأسرية.
الثاني هو ممانعة الدول العربية التي تستمد شرعية حكمها من التشريع الإسلامي والامتزاج مع المؤسسة الدينية، وهذه ترفض القبول بالاستيلاء على الأراضي والمقدسات الإسلامية و فرض الأمر الواقع بالقوة، لكن وبصرف النظر عن قناعات الحكومات فإن شعوب هذه الأنظمة لا يمكن الالتفاف عليها في هذه المسألة بالذات وإقناعها بقبول الكيان الإسرائيلي حتى قيام الساعة. هذا واقع تعيه الأنظمة الحاكمة و تعيه الإدارة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، والأخيرتان تعرفان أن الأمر يحتاج إلى تفكيك هذه العقلية العقائدية إلى عدة عقليات مذهبية متعادية تستنزف بعضها. تشجيع واستغلال التناقضات المذهبية والعرقية والطبقية في هذه الدول، هو ما قد يوجد الفرصة للتغلب على المعضلة، وهذه جزئية مهمة مما يسمونه «الفوضى الخلاقة»، أي تقطيع أوصال العرب لصالح إسرائيل. إحداث الفوضى بطريقة الغزو العسكري كانت ممكنة بالمطلق في العراق وصارت ممكنة جزئياً في ليبيا وأصبحت شبه ممكنة في سوريا، لكنها مستحيلة في الدول التي تستمد شرعيتها من الدين الإسلامي وأحكامه، لأن ذلك سوف يسهل فهمه كحرب دينية ضد الإسلام والمسلمين. في هذه الدول يحتاج مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى من يقوم بمهمة الفوضى الخلاقة والتفكيك من داخل نفس المنظومة العربية، على شكل دول أو دويلات أو شخصيات اعتبارية لها مواصفات و رؤى تسهل برمجتها واستغلالها.
كان من الشخصيات المعروفة التي انخرطت في المهمة السياسي الإندونيسي عبدالرحمن واحد والماليزي أنور إبراهيم والمصري سعد الدين إبراهيم، ويدور بعض اللغط حول الأخضر الإبراهيمي وبعض الشخصيات الخليجية واللبنانية والسورية والعراقية والليبية. ليس سراً أن شمعون بيريز الرئيس الإسرائيلي هو المنسق الرئيس في المنطقة مع المشجعين لمشروع الشرق الأوسط الجديد، المعروفين منهم والمجهولين.
ولكن ماذا عن الشقيقة قطر، هل لها دور ما تؤديه في هذا المشروع التفكيكي؟. دولة قطر الشقيقة لها حساسياتها المعروفة مع دول الجوار، و تملك من خزائن الأرض ما يحسده عليها قارون، و تنفق من هذه الأموال بسخاء لا يستطيع العقل استيعاب أهدافه ومبرراته. الشقيقة قطر تمتلك قناة الجزيرة الإعلامية الجبارة، وهذه بمواصفاتها المهنية ذراع شرق أوسطي لمؤسسة البي بي سي البريطانية، بطواقمها المتدربة هناك وبرامجها الوثائقية
وطريقة خلطها الذكي للموضوعية والعاطفة مع الاستهداف الخفي. الفرق بين الأم وابنتها هو أن قناة الجزيرة أكثر قدرة على الصراخ والشتم وجمع المتناقضين في حفلات السباب أكثر من البي بي سي، لأن المؤسسة الأم تحكمها قوانين بريطانيا الصارمة، والجزيرة تحكمها أهداف و برامج الفوضى الخلاقة. في قطر الشقيقة يجتمع كل المعارضين المتعادين المتباغضين والكارهين لأوطانهم ويتجاورون في المسكن و يتآكلون ويتلاعنون على قناة الجزيرة. من يريد مهاجمة بلده دعوياً، سنياً أو شيعياً، سلفياً أو إخوانياً، ومن يريد الالتفاف على قيود حريات الرأي وتجريمها وانتقاد بلده إصلاحياً وحقوقياً وسياسياً يذهب إلى قطر، ومن يريد أن ينشر ويعدد عيوب أهله يذهب إلى قطر. كل هؤلاء مرحب بهم هناك وتنتظرهم بحبوحة العيش رغم اختلاف القناعات والأسباب والأهداف.
قناة الجزيرة تستلم أشرطة القاعدة وتبثها على العالم، ومن المستحيل أن يتم ذلك بدون علم الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية. هذه القناة تصول وتجول بحرية وتكاليف مادية لا مثيل لها في كل مناطق النزاع والحروب العربية والإسلامية، مؤيدة للثورات الشعبية، لكنها لا تمتلك الحرية لمساءلة الدولة المالكة عن أهداف سياساتها، ولا تقوم باستطلاع مفصل عن سراديب و أسرار القاعدتين الأمريكيتين الأكبر على مرمى حجر من استوديوهاتها.
بالأمس كانت الشقيقة قطر وقناتها الإعلامية الجبارة تقفان إلى جانب إيران وسوريا وحزب الله، بالدعم المالي والإعلامي والحضور الشخصي لكبار المسؤولين في حفلات إعادة الإعمار، واليوم تقفان في الاتجاه المعاكس. بالأمس كانت المواقف مع القوى التي تدعي لنفسها الليبرالية، واليوم صارت مع القوى الجهادية على اختلاف متناقضاتها وتضارب برامجها المستقبلية.
لكن من الذي يجرؤ على لمس قطر وقناة الجزيرة وهما تحت حماية الأموال الطائلة وحراسة أكبر قاعدتين عسكريتين غربيتين في الشرق الأوسط؟. هل الشقيقة قطر وقناة الجزيرة، من تحت مظلة القواعد العسكرية تؤديان دوراً في الفوضى الخلاقة لمشروع الشرق الأوسط الكبير؟. الجواب يحتاج إلى تفكير أعمق من الاعتقاد بانتهاء المشروع وفشله، لأنه موجود في الأدراج و يمكن إخراجه بسهولة عندما يحين الوقت.

ليست هناك تعليقات: